أنانية الأهل بين الحب والسيطرة!
حين تُسرق حياة الأبناء باسم الحرص… ولهم الحق في أن يختاروا طريقهم بأنفسهم…
( عندما يخنق الحب الحرية )
أحيانًا يختبئ خلف ما نسميه (((حب الأهل))) قدرٌ كبير من الأنانية المقنّعة، تلك التي تتدخل في كل ما يخص أبناءهم، وكأنهم امتدادٌ لإرادتهم لا كائنات لها ذاتها ورغبتها الخاصة. يريد الأب أن يرى ابنه طبيبًا لأنه حلم يومًا أن يكون كذلك، وتريد الأم أن تفتخر بابنتها المهندسة أو المحامية لأنها لم تُمنح الفرصة لتكون واحدةً منهن.
يريدون أن يصنعوا من أبنائهم مرآةً لما لم يستطيعوا هم تحقيقه، أو درعًا يقيهم من خيبةٍ قديمة، فيغلفون ذلك بثوبٍ من الحب والخوف والحرص، وكأن التحكم طريق النجاة.
لكنهم لا يدركون أن تلك القرارات الصغيرة التي يفرضونها تُطفئ في الأبناء شرارة الحياة التي خُلقت لتشتعل بقرارٍ حر، وأن التخصص الذي يُفرض لا يصنع مستقبلًا مشرقًا، بل سجنًا مؤدبًا اسمه (((رضا الأهل))).
كم من شابّ درس ما لا يحب، وكم من فتاة عاشت أعوامها بين الكتب التي لا تشبهها، فقط لأن والديها رأيا أن هذا الخيار “الأضمن”. فيكبرون وهم يحملون شهاداتٍ لا تنتمي لهم، وأحلامًا لا يعرفون من زرعها في رؤوسهم، فيصيرون نسخةً منهكة من أنفسهم، ناجحين في نظر الناس، لكنهم غرباء عن ذواتهم.
أما التدخل في الزواج، فهنا تبلغ الأنانية ذروتها، حين يختار الأب أو الأم شريك حياةٍ لابنٍ أو ابنةٍ كأنهم هم من سيتقاسمون الفراش والمزاج والسرّ والملل والدهشة، وكأنهم هم من سيعيشون داخل تفاصيل هذا البيت الذي يُبنى بالحب لا بالموافقة العائلية. عزيزي الأب، عزيزتي الأم: أنتم لن تتزوجوا الرجل الذي تختارونه لابنتكم، ولن تتزوجوا المرأة التي تختارونها لابنكم. لن تستيقظوا بجانبهم، ولن تتحملوا صمتهم أو اختلافهم أو مزاجهم، ولن تعرفوا كيف تهدأ قلوب أبنائكم حين يغضبون أو يحنّون أو يضعفون. لن تعاشروا هذا الشخص في حميميته، ولن تشاركوا لحظات المتعة الجنسية أو النوم معه، ولن تنجبوا منه. أنتم مجرد مراقبين من الخارج، فكيف تجرؤون على فرض إرادتكم على حياة لا تعيشونها؟ التدخل في مشاعرهم، في رغباتهم، في قراراتهم الجنسية والوجدانية، ليس حبًا ولا حرصًا، إنه السيطرة الأنانية في أبهى صورها. اختيار الشريك هو حقهم الأعمق، حياتهم الخاصة، وملذاتهم الطبيعية لا يحق لأي أحد أن يقرر عنها، مهما ادعى الحب أو القلق. أن تُجبر ابنتك على رجلٍ لا تحبه بحجة أنك “أدرى بمصلحتها”، يعني أنك سرقت منها حقّها في التجربة، في الخطأ، في الحياة نفسها. وأن تفرض على ابنك امرأةً تراها مناسبة لعائلتك لا لقلبه، يعني أنك اختصرت الزواج إلى صفقةٍ اجتماعية، ونسيت أنه رحلة روحين، لا مشروع نسبٍ أو مكانة.
الحب الحقيقي لا يملك، بل يمنح. والأبوة الناضجة لا تفرض، بل تساند. إن أعظم ما يمكن أن يقدمه الأهل لأبنائهم هو الثقة، لا الوصاية. أن يربّوهم على الوعي والاختيار لا على الطاعة والتبعية. فالأبناء ليسوا انعكاسًا لآبائهم، بل استمرارًا للحياة في شكلٍ جديد، لا يشبه إلا نفسه. اتركوا لهم حقّ الخطأ، لأن الخطأ هو ما يصنع الإنسان الواعي، وباركوا اختياراتهم حتى وإن خالفت ما تحبون، لأنكم لم تُخلقوا لتعيشوا عنهم، بل لتمنحوهم القوة ليعيشوا لأنفسهم. في النهاية، كلّ أبٍ وأمٍ سيغادران حياة أبنائهم يوماً، لكن القرارات التي زرعوها ستبقى ترافقهم طيلة عمرهم، إما كشجرة ظلّ، أو كقيدٍ حول العنق. فاختاروا أن تكونوا ظلّاً لا قيداً، حبًّا يفتح الأبواب لا حبًّا يغلقها.
أيها الأهل، كفاكم أنانيةً مموّهة بالحرص، وكفاكم تمثيل الفضيلة وأنتم تمارسون السيطرة. لسنا مشاريع ترميم لخيباتكم، ولسنا مسرحًا لأحلام لم تتحقق. أن تُحب ابنك لا يعني أن تملك حياته، وأن تخافي على ابنتك لا يمنحك حقّ مصادرتها. بعض الحماية يُطفئ، وبعض الحرص يقتل، وبعض النوايا الطيبة تُدمّر أكثر مما تبني. إنكم تُربّون أبناءً هشّين، مشغولين برضاكم أكثر من سعادتهم، يبحثون عن قبولكم أكثر من حقيقتهم، فيكبرون بأجسادٍ ناضجة وقلوبٍ مكبّلة بعبارة: (((نحن نعرف مصلحتك أكثر منك))).
ولكم أيها الأبناء، تذكّروا: أنتم من سيعيش هذه الحياة، لا آباؤكم ولا أمهاتكم ولا المجتمع. أنتم من سيتحمّل ليالي الندم، وأنتم من سيذوق حلاوة الاختيار أو مرارته. لا تسلّموا زمام مصيركم خوفًا أو ضعفًا أو تحت شعار “الاحترام”. الاحترام لا يعني أن تُميت نفسك لتُرضي غيرك، ولا أن تضع أحلامك في يد من لا يعيشها معك. ولو كانوا مكانك، لاختاروا لأنفسهم دون أن يسألوك رأيك، فلماذا تخون نفسك لتُرضيهم؟ احمِ حقك في أن تختار، لأنك إن لم تفعل، سيختار العالم عنك، وسيتركك بعد ذلك وحيدًا تتحمّل نتائج قرارٍ لم يكن يومًا لك. الحياة لا تنتظر المترددين، ولا ترحم من عاش بنسخةٍ كتبها الآخرون. عش كما تشاء، لا كما يُملى عليك، فالشجاعة الحقيقية أن تكون ذاتك، لا ما يريدونك أن تكونه..
تعليقات
إرسال تعليق