المثالية الزائفة: لماذا نرهق أنفسنا بصورة الإنسان الكامل؟

 

الإنسان لا يُضيّعه نقصه، بل يضيّعه وهم اكتماله


الكمال… تلك الفكرة التي رافقت الإنسان منذ وُجد، فكرة تتجاوز حدود الواقع لتستقر في اللاوعي الجمعي كحلم لا ينطفئ. لكن السؤال الجوهري: هل الكمال هدف مشروع، أم لعنة تطاردنا في كل لحظة من وعينا؟

المثالية الزائفة ليست مجرد سعي لتحسين الذات، بل هي قناع نرتديه خوفاً من مواجهة حقيقتنا. حين نبحث عن “صورة كاملة” لأنفسنا، فإننا نغترب عن ذواتنا الحقيقية، ونعيش وفق ما يتوقعه الآخرون، لا وفق ما نكونه فعلاً. وهنا تتحوّل الحياة إلى خشبة مسرح، نحن فيها ممثلون نكرر أدواراً كُتبت لنا سلفاً.

الإنسان ليس كائناً مكتملًا، بل مشروعاً دائماً للنقص، واللااكتمال هو سر وجوده. فلو بلغ الكمال، لانتفت حاجته إلى المحاولة، ولانتهى معنى السعي. النقص هو الذي يلد الرغبة، والرغبة هي التي تصنع الوعي. بذلك، يصبح الكمال الذي نطارده نقيضاً للحياة نفسها، لأنه يسعى لإلغاء جوهرها القائم على الحركة، التغيّر، والتجاوز.

إن المثالية الزائفة تصنع عبودية جديدة ، عبودية خفية لا تحكمنا بالحديد والنار، بل بالمعايير والصور. نقيس أنفسنا على مقاييس لم نضعها نحن، فنصبح غرباء عن ذواتنا. نعيش لننال رضا عين خارجية، وننسى أن أعظم حرية هي أن ننظر لأنفسنا دون خوف، ونقول: (((هكذا أنا))).


الفيلسوف نيتشه قال: (((لتصبح ما أنت عليه.))) وهذه العبارة ليست دعوة للكمال، بل دعوة للشجاعة، أن نحمل هشاشتنا ونتصالح مع تناقضاتنا. فالحقيقة أن الإنسان لا يُقاس بمدى خلوه من العيوب، بل بمدى صدقه في مواجهة هذه العيوب، وقدرته على أن يحوّل ضعفه إلى معنى.

في النهاية، المثالية الزائفة ليست سوى وهماً يعيد إنتاج نفسه في عقولنا.

أما الحرية الحقيقية فتبدأ لحظة نكسر المرآة، ونتوقف عن البحث عن صورة كاملة، لنسكن ببساطة في إنسانيتنا الناقصة… الجميلة بعمقها...


تعليقات

المشاركات الشائعة