أين تجد نفسك …

 

        العلاقات بين السطح والعمق:

 رحلة البحث عن النفس في الآخر..

أشدّ ما ينهك الإنسان أن يعيش أو يعاشر من لا يفهمه، ولا يبادله الفهم، ولا يعرف عمقه ، وهو كذلك يعجز عن النفاذ إلى عمق الآخر. 

حين يغيب الفهم المتبادل، تتحوّل العلاقة إلى ترجمةٍ متعبة: كل كلمة تحتاج قاموسًا، وكل شعورٍ يحتاج تبريرًا، وكل صمتٍ يُساء تفسيره. ومع الوقت، يتآكل المعنى، ويصير الحضور جسدًا بلا روح.

الفهم ليس موافقةً دائمة، بل قدرةٌ على رؤية العالم من نافذة الآخر دون أن نفقد أنفسنا. هو ذكاءٌ عاطفيٌ يتعرّف على الإشارات الخفية: نبرة الصوت، ارتباك العين، المعاني التي تسكن ما بين السطور. أما العمق فليس تعقيدًا ولا تكلّفًا؛ العمق صدقٌ مع الذات، وحساسيةٌ للمعنى، ورغبةٌ في أن تكون العلاقة مساحةً للنمو لا عرضًا للانطباعات.

الشخص العميق صعبٌ أن يتقبّل أيّ أحد؛ لأن المعايير عنده ليست لَمَعانَ العرض، بل نبرة الجوهر. وإن تقبّل  بصفاء النية ولم يجد ذلك الفهم وذلك العمق، سيتعب ويملّ. يتعب لأن الحديث يطفو على السطح، ولأن الأسئلة الكبرى تُختزل في مجاملات، ولأن قيمه تُستهلك في تبرير نفسه بدل أن تُستثمر في بناء رابطة. ويملّ لأن الروح لا تعيش طويلًا على طعامٍ خفيف؛ تحتاج خبز المعنى وملح الصدق.

العلاقة التي لا تعرف العمق تُكثّر الكلام وتُقلّل القرب. نشارك تفاصيل اليوم ونفقد تفاصيل الذات. نضحك كثيرًا ونطمئن قليلًا. ينشأ نوعٌ من الوحدة المكتظّة: قربٌ جسديٌ واجتماعي، وبُعدٌ نفسيٌ وروحي. هنا يبدأ الانسحاب الهادئ: لا عقابًا، بل حفاظًا على العافية الداخلية.

ليس المطلوب أن يكون الآخر نسخةً منا، بل أن يكون شريكًا في البحث عن المعنى. أن نختلف دون أن ننكسر، وأن نصمت دون أن نُساء فهمنا، وأن نُخطئ دون أن تُسلب كرامتنا. الفهم المتبادل يولد من وضوح القيم وحدودٍ محترمة وصدقٍ لا يتجمّل. وحين يتعذّر اجتماع هذه الثلاثة، تصير العزلة  لبعض القلوب أرحم من صحبةٍ سطحية.

في النهاية: العمق نعمة ومسؤولية. من حُمِّل نعمة العمق عليه أن يحمي طاقته من الاستنزاف، وأن يختار دوائر قليلة لكن صادقة. فالقليل الذي يفهمك، أقرب إلى روحك من الكثير الذي يراك ولا يَراك. والإنسان لا يُشفى من تعبه بالازدحام، بل باللقاء الصحيح؛ لقاءٌ يُريك نفسك ولا يستهلكها…



تعليقات

المشاركات الشائعة